1. Home
  2. /
  3. اراء
  4. /
  5. مقالات
  6. /
  7. هل ما حدث يوم...

هل ما حدث يوم 14 تموز 1958 ثورة أَم انقلاب؟

د.عبدالخالق حسين

مقدمة

تمر علينا هذه الأيام الذكرى الحادية والستون لثورة 14 تموز المجيدة. وفي هذه المناسبة تتوفر الفرصة لأنصار الثورة وخصومها للمساهمة في الكتابة عنها، خاصة بعد أن تحرر شعبنا من نظام البعث ومعاناته الطويلة. والملاحظ أن خصوم الثورة، التقليديون والجدد، راحوا ينتقصون منها ويحملونها تبعات جرائم البعثيين الصداميين، علماً بأن الثورة كانت الضحية الأولى لهؤلاء الفاشيست.

هناك فريقان يحاولان الطعن بثورة 14 تموز 1958، الفريق الأول، ويضم الخصوم التقليديين وهم أنصار الملكية من الذين استفادوا من ذلك العهد، وتضرروا من الثورة، من اقطاعيين وملاك العقارات، وذوي المناصب والطبقة الحاكمة. وحجة هؤلاء أن النظام الملكي كان ديمقراطياً واعداً بالخير، فقام العسكر بوأده وجلبوا علينا الكوارث وفتحوا باب الانقلابات وحكم العسكر، وكأن العراق لم يعرف الانقلابات العسكرية قبل هذا الحدث.

أما الفريق الثاني، فهم من الذين رحبوا بالثورة وصفقوا وطبلوا لها في البداية، ولكن بعد أن تم ذبح الثورة يوم 8 شباط 1963، وإدخال البلاد في نفق مظلم من الكوارث، تنكروا لها، وراحوا يلقون اللوم عليها في كل ما أصاب العراق بعد ذلك اليوم الشباطي الأسود. وهذا الفريق هم الأخطر، إذ يحاولون الظهور بمظهر الموضوعية والعلمية والحيادية، واليسارية…الخ، ولكن في حقيقة الأمر هم قصيرو النظر، يطلقون أحكامهم بتأثير العاطفة ليس غير.

يخطأ من يعتقد أن ما حدث يوم 14 تموز كان نتاج مؤامرة قام بها نفر من الضباط العسكريين الطامعين بالسلطة، بل كان حتمية بسبب الأوضاع الشاذة في العهد الملكي، (راجع مقالنا: أسباب ثورة 14 تموز، الرابط 1 في الهامش). وقد تنبأ بالثورة وحرض لها كثير من المثقفين من مختلف الاتجاهات، وعلى رأسهم شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، والشاعر معروف الرصافي وغيرهما.

هناك بديهية مفادها أن كل مرحلة تاريخية هي وليدة المرحلة السابقة، وإذا ما استنفدت المرحلة شروط وجودها تنتهي لتفسح المجال لمرحلة جديدة. لذا، فمن نافلة القول أن بذور ثورة 14 تموز نمت في رحم العهد الملكي نفسه. والبديهية الأخرى هي أن الثورات لا يمكن تفجيرها “حسب الطلب” أو بفرمان من أحد، وإنما هي نتاج شروط موضوعية من تراكمات ومظالم ومتطلبات سياسية واجتماعية واقتصادية تلح بالتغيير، وعندما تنتفي الوسائل السلمية الديمقراطية لتحقيق التحولات المطلوبة، وتتوفر لها الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، عندئذِ يحصل التغيير بالعنف الدموي وما يصاحب ذلك من هزات عنيفة، واضطرابات خطيرة في المجتمع، بغض النظر عن النتائج والعواقب، وهل هذه الثورة تواصل مسيرتها أم تفشل.

وفي هذا الصدد يقول المفكر الأمريكي بيتر دروكر في في كتابه الموسوم: (عصر القطيعة مع الماضي): “أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية  تستدعي (إحداث)  تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث، تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية.” (من كتاب: إعادة البناء التربوي للعراق، دكتور محمد جواد رضا).

مفهوم الثورة والانقلاب
لقد تطرقتُ أكثر من مرة إلى هذا الموضوع نظراً لأهميته، ولكن مع ذلك يطلع علينا بين حين وآخر، نفر من الكتاب يرددون نفس الأطروحة، واصفين ما حدث يوم 14 تموز بالانقلاب العسكري ويلقون عليها باللائمة على كل ما حصل للعراق في عهد البعث الصدامي. لذا أرى من الضروري العودة لهذا الموضوع لتوضيح هذين المصطلحين (الانقلاب والثورة)، ولو بإيجاز شديد، من أجل إزالة الالتباس والتشويش في فهم ما حصل يوم 14 تموز 1958 وتحديد موقفنا منه. فماذا حصل بالضبط في ذلك اليوم التاريخي الفاصل بين مرحلتين مختلفتين كل الاختلاف في تاريخ العراق الحديث: هل كان انقلاباً كما يرى الخصوم؟ أم ثورة كما يرى الأنصار؟

لقد أسيء استخدام هذين المصطلحين (الثورة والانقلاب) أيما إساءة وذلك بناءً على الموقف العاطفي لا الموضوعي، الذي يتخذه الشخص مما حدث في ذلك اليوم، فإن كان مؤيداً له استخدم كلمة ثورة، و إن كان معارضاً، قال أنه مجرد انقلاب عسكري جلب علينا الكوارث!. إن هذين المصطلحين، الإنقلاب والثورة، لهما مدلولاتهما العلمية والتاريخية، يجب عدم ترك استخداماتهما للعواطف التي هي عادةً نتيجة خيبة أمل.

الإنقلاب Coup، يعني تبديل رجال الحكم فقط، إما بالعنف المسلح، وغالباً بعملية عسكرية military coup، مثل الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق بكر صدقي عام 1936 في عهد الملك غازي. أو ما يسمى بانقلاب القصر coup d’état، يقوم رجال من نفس الطبقة الحاكمة بعملية تغيير الحكام نتيجة للصراعات فيما بينهم على السلطة، مثل ما قام به نوري السعيد على رئيس الوزراء أرشد العمري بعد انتخابات 1954 حيث فاز 11 نائباً من المعارضة من مجموع 131 نائباً، فلم يتحمل نوري السعيد هذا العدد القليل من المعارضين في البرلمان، فقام بانقلاب القصر بعد 24 ساعة من خطاب العرش. المهم أن في كلتا الحالتين، انقلاب القصر أو الانقلاب العسكري، تكون العملية غير مصحوبة بأي تغيير للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

أما الثورةRevolution ، فهي عملية تبديل الحكام وقد يتم بالعنف المسلح أو بدونه، ولكن بالضرورة تكون مصحوبة بتغيير النظام السياسي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي. فالمهم هنا تغيير القاعدة الإقتصادية والإجتماعية وتطورها من مجتمع قبلي متشظي ذو سمات شبه إقطاعية في الريف وعلائق كومبرادورية في المدينة، إلى مجتمع قائم على تعددية الأنماط الاقتصادية نحو العصرنة والتحديث وبالتالي تغيير الفئات الحاكمة من حيث جذر الإنتماء الطبقي.

وعليه، ماذا حصل في يوم 14 تموز وما تلاه؟
إن “الحدث” الذي حصل في ذلك اليوم يجب أن ينظر إليه من منظورين أساسيين، الأول، موقف الجماهير الشعبية منها، هل كانت الجماهير ضد الحدث أو معه، متفرجة أو متفاعلة ومؤيدة له بحماس؟ الثاني، وماذا حصل من تغييرات بعد ذلك اليوم بسبب الحدث في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصداية.

فبالنسبة لموقف الجماهير، ما أن أذيع البيان الأول لـ”لحدث” حتى ونزلت الجماهير من أقصى العراق إلى أقصاه في الشوارع والساحات، مؤيدة بحماس منقطع النظير لما جاء في البيان. وفي هذه الحالة، وكما يقول حنا بطاطو: كانت العملية انقلاباً عسكرياً في لحظة وقوعها، ولكن حولتها الجماهير في لحظات إلى ثورة جماهيرية التحمت فيها الجماهير بالقوات العسكرية المسلحة، الأداة المنفذة للعملية. والجدير بالذكر أن القيادة العسكرية للثورة كانت على اتصال وتنسيق وتفاهم مع قيادة جبهة الاتحاد الوطني التي كانت تضم الأحزاب الوطنية المعارضة.

أما ما حصل من تغيير بسبب ذلك الحدث، فقد حصل ما يلي: اسقاط النظام الملكي وإقامة النظام الجمهوري، وتبنى سياسة عدم الإنحياز، وإلغاء جميع المعاهدات الاستعمارية الجائرة المخلة بالاستقلال الوطني، والخروج من الأحلاف العسكرية (حلف بغداد)، وتحقيق الإستقلال السياسي التام، والسيادة الوطنية الكاملة، وتحرير الاقتصاد والعملة العراقية من الكتلة الإسترلينية، وإلغاء حكم العشائر، والنظام الاقطاعي، وتحرير الملايين من الفلاحين الفقراء من سيطرة الإقطاعيين بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وتحرير 99.5% من الأراضي العراقية من سيطرة الشركات النفطية الاحتكارية بإصدار قانون رقم 80، وتحرير المرأة بإصدار قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، وازدهار الصناعة، وبناء عشرات الأحياء السكنية للفقراء، والتفاف الجماهير حول قيادة الثورة وحماية منجزاتها…وغيرها والقائمة تطول… (راجع مقالنا: منجزات ثورة 14 تموز) (2).

وبعد كل هذه المنجزات والتغييرات التي حصلت في المجتمع العراقي بعمق، هل من الموضوعية بشيء تسمية ما حدث في ذلك اليوم بالانقلاب؟ لذلك نعتقد أنه لا يمكن لأي باحث منصف إلا وأن يعترف بأن ما حصل في يوم 14 تموز 1958، كان ثورة بكل معنى الكلمة.

ولعل أدق شهادة بهذا الخصوص جاء من المستشرق الفرنسي المعاصر البروفيسور مكسيم رودنسون الذي قال: بأن “ثورة 14 تموز العراقية هي الثورة الوحيدة في العالم العربي”، وأيد ذلك بقوة الموضوعية الباحث البروفيسور في العلوم السياسية حنا بطاطو عندما سأل: “هل ترقى أحداث 14 تموز (يوليو) إلى مستوى الثورة أم أنها مجرد انقلاب؟ ويجيب قائلاَ: “والواقع إن إلقاء نظرة سريعة على الآثار اللاحقة، يكفي لجعلنا نعرف أننا أمام ثورة أصيلة. ولم يكن لظاهرة سياسية سطحية أن تطلق كل تلك المشاعر بهذا العنف… والواقع إن 14 تموز أتى معه بأكثر من مجرد تغيًر في الحكم. فهو لم يدمر الملَكية أو يضعف كل الموقع الغربي في المشرق العربي بطريقة جذرية فحسب، بل أن مستقبل طبقات بأسرها ومصيرها تأثر بعمق. ولقد دمرت إلى حد كبير السلطة الاجتماعية لأكبر المشايخ، ملاكي الأراضي، ولكبار ملاكي المدن، وتعزز نوعياً موقع العمال المدنيين، والشرائح الوسطى والوسطى الدنيا في المجتمع. وتغير كذلك نمط حياة الفلاحين نتيجة لانتقال الملكية من ناحية، وإلغاء أنظمة النزاعات القبلية، وإدخال الريف في صلب القانون الوطني من ناحية أخرى [4]. لذا فإننا ننظر إلى إنجازات الثورة بالإرتباط إلى ما حققته من تحولات كبيرة في المجتمع العراقي، وبقيت تأثيراتها حتى اليوم رغم الثورات المضادة.” فهذه هي شهادات الباحثين الموضوعيين المحايدين بحق ثورة 14 تموز المجيدة.

ومن كل ما تقدم، نستنج أن ما حصل في يوم 14 تموز 1958 كان ثورة حقيقة بكل معنى الكلمة. أما كون الثورة أغتيلت بانقلاب 8 شباط 1963، وما حصل بعد ذلك من كوارث فاللوم يقع على عاتق المجرمين الفاشيين الذين استفادوا من ظروف الحرب الباردة، فكانت الثورة ضحية لتلك المؤامرات القذرة. ولكن مع الأسف الشديد هناك حتى من المحسوبين على اليسار راحوا يلقون باللائمة على الضحية بدلاً من إلقائها على المجرمين الحقيقيين، ألا وهم متآمرو 8 شباط الأسود.

ومهما قيل عن هذه الثورة وقيادتها الوطنية، فإنها تعتبر الحدث الأهم في تاريخ العراق الحديث، ويبقى قائدها شهيد الوطنية العراقية، الزعيم عبدالكريم قاسم خالداً في ضمير الشعب، كرمز للوطنية والنزاهة والإخلاص للشعب والوطن.

المجد والخلود لثورة تموز وشهداء الحركة الوطنية الأبرار.

zowaa.org

menu_en